جار التوجيه في 3 ثانية

© Image Copyrights Title

الشنقيطي القادم من القرن الخامس الهجري

إنه رجل من أهل القرن الخامس الهجري تنقل بين علمائه في مشارق الأرض ومغاربها حيث أدرك الخطيب البغدادي (392- 463 هـ) فأخذ منه علم الحديث، ثم التحق بأبي حامد الغزالي (450 هـ - 505 هـ) في المدرسة النظامية بغداد فمكث معه طويلا، وورث منه علم الأصول والمنطق بعد أن ناصره في حربه مع الفلاسفة والباطنية، ثم رحل إلى مكة فالتقى بالزمخشري (467 - 538 هـ) ليجاور معه ردحا من الزمن ويأخذ منه علم البلاغة والنحو، ثم ارتحل إلى الأندلس فالتقى بابن حزم الأندلسي (384 - 456 هـ) وأبي الوليد الباجي (403 - 474هـ ) وابن عبد البر (368 – 463 هـ) والقاضي عياض (476 - 544 هـ) وغيرهم من علماء القرن الخامس.

 

ثم رجع شرقا إلى أفغانستان، وبينما كان التاريخ يستعد لتخليد اسمه باعتباره أبرز علماء عصره وأعظم رحالة في القرن الخامس مرّ به عالم الرياضيات والفلك أبو الريحان البيروني (362 - 440هـ) فاختلفا في مسألة وتنازعا نزاعا كبيرا فأزمع أمره على الرحيل عبر الزمن حتى استقر في عصرنا وهو يحمل علوم الشرع واللغة والمنطق والتاريخ، ثم ما فتئ يكره علم الرياضيات لخصومته التي كانت سبب هجرته.

 

كانت هذه الصورة التي استقرت في خيالي عن المفكر الإسلامي د. محمد المختار الشنقيطي بعد أن شُغفت بقراءة كتبه ومتابعة محاضراته منذ كنت فتى غِرّا بادئ الرأي حتى يوم الناس هذا، ولعل جزالة عبارته وقوة حجته وإحاطته بالمواضيع التي كتب فيها جعلتني أغربل القرون لأجد له قرنا يناسبه وصحبة من أنداده تناظره، فوجدت أنه أقرب لأهل القرن الخامس وإن عاش في عصرنا وشرب من كدر واقعنا.

 

في مجلس الشنقيطي

كانت مُساءلَةُ الرُّكبانِ تُخبرُنَا *** عن جعفر بن فلاحٍ أطيَبَ الخبرِ

 

قرأت أغلب تصانيف الشنقيطي التي نثر فيها درر علمه ونفائس فهمه ككتابه:

- الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية: من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي،

- وكتابه: الخلافات السياسية بين الصحابة،

- وديوان شعره الذي حوى بعض قصصه: جراح الروح،

- وكتابه: الحركة الإسلامية في السودان،

- وكتابه: نرجسية الريادة ولجام الإسلام،

 

وسمعت بعض محاضراته وكلامه في المواقع لترتسم له صورة في ذاكرتي ظاهرها الجد والمثابرة والشجاعة في قول الحق، وباطنها العلم واليقين.

 

ثمّ التقينا فلا واللّهِ ما سمعتْ *** أُذني بأحسن مما قد رأى بصَري

 

وما إن دخلت داره حتى تزاحمت في ذاكرتي بعض آرائه التي سال في نقاشها حبر كثير بين مؤيد ومعارض، ومواقفه التي تركت في الدنيا دويا وشغلت الناس، وشجاعته فيما يظهر له من الحق، وأمور كثيرة يضيق عن ذكرها المقام، وتواردت علي أفكار تقارن بين صورته التي استقرت في خيالي وحقيقته التي أمام ناظري قبل أن يقطع ذلك كله بالترحاب وحسن الاستقبال وكرم الضيافة.

 

وإن تحدث الناس عن علمه وآرائه التي دونها في كتبه فإن ثمة جانبا آخر يسطع في شخصيته العلمية، أذكر منه - مثالا لا حصرا - بإيجاز:

1. إن المتتبع لمؤلفاته يدرك فيها نصيبا كبيرا من الجد والجهد، وربما أوحت سطور كتبه بشخصية صارمة جدا وصلبة لكنه في الواقع هين لين سهل قريب، يُشعر السمار بأن الحياة أكثر رحابة وسهولة.

 

2. ظننت أن هجرته عن وطنه واستقراره في جزيرة العرب سنوات كثيرة أنسته لهجة "الحسانية" لكن سرعان ما تبين لي خلاف ذلك بل إنه يحفظ كثيرا من "لغن الحساني" وقد حكى بعضه في المجلس.

 

3. زانه تواضع جم وخلق رفيع حتى لكأن الشاعر قصده بقوله:

 

ولكنْ كريم الأصل كالغصن كلما *** تحمل أثماراً تواضع وانحنى

 

ختاما: إن المفكر الإسلامي د. محمد المختار الشنقيطي نبغ في تخصصه وأحاط بما لم يحط به غيره من خفايا الواقع وتكافؤ الأدلة وفقه السياسة، وإن لم تستفد منه دولنا الإسلامية والعربية على وجه الخصوص في رسم سياساتها وتقرير مصيرها ووحدة صفها فإن فرصة عظيمة تكاد تضيع، وعقلا عظيما ستحتفي به القرون القادمة إن لم يجد ما يليق به في هذا العصر الهازل من إشادة وتقدير.

 

  • 0
  • 0
or

For faster login or register use your social account.

Connect with Facebook