مكافحة الفساد: مسألة وطنية عاجلة / بقلم محمد المختار سيدي هيبة
2025-10-19 10:25:40
كُتب هذا المقال أول مرة عام 2009، وأُعيد نشره سنة 2019، لكن يمكن للقارئ أن يظن أنه كُتب البارحة، فالمشهد لم يتغير إلا في التفاصيل. فما تزال الظاهرة نفسها، وما تزال اللغة الرسمية تراوح بين الوعود والتبريرات. تقرير محكمة الحسابات الأخير مثال صارخ على هذا الجمود: إذ اتّسم بقدرٍ من الميوعة والغموض، وافتقر إلى تحديدٍ دقيقٍ للمسؤوليات الفردية والمؤسسية في ما ورد من مخالفات مالية وإدارية. ولم يُبيّن التقرير بوضوح ما إذا كانت الاختلاسات ناتجة عن نية مسبقة واختلاس منظّم أم أنها نتيجة ضعف الكفاءة وسوء التدبير الإداري، سوى ما ورد في تصريحاتٍ عامة لرئيس المحكمة خلال مؤتمره الصحفي.
كما لوحظ تداخل هيئات الرقابة وتعددها، ما يؤدي إلى ضعف التنسيق وضياع الفاعلية في منظومة المتابعة والمساءلة. وتظل الإحالات إلى القضاء محدودة، إذ لا تتم إلا عبر السلطة التنفيذية، ما يُضعف استقلالية مسار العدالة ويفرغ الرقابة من مضمونها الردعي. الأخطر من ذلك أن الرادع ما يزال غائبًا، حيث يكفي في كثير من الحالات إرجاع المبالغ المختلسة بالتقسيط لتفادي العقوبة، في غياب العقوبات الزجرية الفعّالة كالسجن والغرامات.
هذه الوقائع لا تعبّر عن خللٍ طارئ، بل عن مرضٍ بنيوي ينهش مؤسسات الدولة منذ عقود.
الفساد: مرض الدولة وضعفها البنيوي
الفساد ليس مجرد انحرافٍ أخلاقي أو خللٍ إداري، بل هو مرضٌ سياسي ينخر جسد الدولة ويفكّك ببطء الصلة بين السلطة والمجتمع. تعرفه البنك الدولي بأنه “استخدام السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة”، غير أن هذا التعريف، رغم دقته، لا يحيط بعمقه وامتداداته. ففي موريتانيا، لم يعد الفساد سلوكًا عابرًا، بل تحول إلى نظامٍ قائم وثقافةٍ مترسخة، بل إلى ما يشبه الطبيعة الثانية في حياتنا الجماعية.
تسلل إلى الإدارة، ولوّث القضاء، وأضعف الثقة المدنية، حتى كاد يقضي على مفهوم المصلحة العامة ذاته. فالموظف، والشرطي، والقاضي، والإداري جميعهم يشاركون بدرجات متفاوتة في اقتصاد الامتياز. والمواطن البسيط يجد نفسه مجبرًا على “دهن الكف” ليحصل على أبسط حق. صار الفعل عادة، والعادة عرفًا، والعرف قاعدة غير معلنة لتسيير الشأن العام.
مأزق المواجهة الشكلية
لم تفتقر موريتانيا إلى الخطط أو اللجان أو الشعارات، لكن أغلبها ظلّ شكليًا، موجهًا لإرضاء الممولين الأجانب أو لامتصاص الغضب الشعبي. ما زالت الدولة تفضل الخطابة على الإصلاح، والتهديد على الرقابة، والعقاب الانتقائي على العدالة الشاملة.
إن مكافحة الفساد لا يمكن أن تكون أداة انتقام أو وسيلة لتصفية الحسابات، بل مشروعًا وطنيًا لإعادة تأسيس الدولة على مبدئها الجمهوري الأصلي: أن الدولة ملكٌ لجميع مواطنيها، لا لأولئك الذين يديرونها.
مسؤولية جماعية
الفساد شأنٌ جماعيّ لا يخص وزارةً أو قاضيًا بعينه، بل هو مسؤولية المجتمع بأسره: الدولة، والقطاع الخاص، والإعلام، والأحزاب، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني. واستعادة مصداقية العدالة هي الخطوة الأولى، لأن بقاء هيئات الرقابة خاضعةً للسلطة التنفيذية يُفقدها الاستقلال ويُجهض الردع. المطلوب تمكين محكمة الحسابات، والمفتشية العامة للدولة، وأجهزة التفتيش القطاعي من التحرك التلقائي دون إذنٍ سياسي مسبق، وتحقيق استقلالٍ فعلي للقضاء.
لكن المجتمع نفسه يتحمل نصيبه من الذنب، فكل رشوةٍ تُدفع وكل مخالفةٍ تُسكت تُغذي هذا المستنقع. لا يمكن بناء دولةٍ بلا وعيٍ مدني ولا إحساسٍ بالواجب الجماعي.
إصلاح أخلاقي قبل أن يكون إداريًا
ينتعش الفساد حيث الرواتب هزيلة والمعاشات مهينة والبيروقراطية خانقة والعقوبة نادرة. تبدأ مكافحته بإعادة الاعتبار لكرامة الوظيفة العمومية وتحسين الأجور وتبسيط الإجراءات. الشفافية ليست تقنية بل ثقافة في الاحترام والمسؤولية.
إجراءات عاجلة وهيكلية
1. تعزيز التشريعات وتوسيع تعريف جرائم الفساد.
2. تبسيط الإجراءات الإدارية لتقليص فرص الابتزاز.
3. تمكين أجهزة الرقابة والقضاء من المبادرة الذاتية.
4. إنشاء هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد مزوّدة بصلاحيات حقيقية.
5. حماية الصحفيين والمبلّغين عن الجرائم المالية.
6. استبعاد كل من تثبت عليه تهمة فساد من الوظيفة العمومية ومنعه من الترشح لأي منصب.
7. تدقيق شامل للمالية العامة خلال الخمسة عشر عامًا الماضية.
8. تحديث القوانين الجنائية والتنظيمية بما فيها تمويل الحياة السياسية.
9. تأهيل القضاة والمحققين في مجالات التتبع المالي.
10. إطلاق حملة وطنية لترسيخ ثقافة النزاهة في المدارس والمساجد ووسائل الإعلام.
مسألة بقاء الدولة
القضية لم تعد أخلاقية فحسب، بل مسألة بقاء دولة. كل عمل فساد يقتل قريةً من الماء، أو يحرم مريضًا من دواء، أو يهدد سدًّا بالانهيار. الفساد يقتل بصمت.
ورغم توقيع موريتانيا على اتفاقيات الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، فإن ترتيبها في مؤشر الشفافية الدولية (144 من أصل 180 بدرجة 27/100) يفضح الفجوة بين النصوص والواقع.
ضرورة حضارية
مواجهة الفساد ليست إصلاحًا إداريًا بل فعلًا حضاريًا. إنها استعادة للضمير، وللمعنى الأخلاقي للعمل العام. فالفساد جريمة ضد الثقة، يمزّق النسيج غير المرئي الذي يجعل من الشعب جماعةً سياسية.
موريتانيا لا تفتقر إلى العقول ولا إلى الموارد، بل إلى الإرادة. يوم يتوقف المواطن عن دفع الرشوة ليحصل على حقه، سنكون قد بدأنا فعلًا في إعادة بناء الجمهورية.
- 0
- 0